عرشه على الماء – أسلمة الوثنية
طالما ظن عبدة الوثن الواحد الخفي أنهم أذكى من عبدة الأوثان المتعددة أو المرئية. فقط لان وثنهم غير مرئي. وثنخاف. لكن الوقوع في عبادة صنم تخيلي لا تعني ابدا أنهم أذكى ممن وقع في عبادة أكثر من صنم بل العكس تماما وهذا ما نلاحظه في طريقة فهمهم لكثير من الامور. تطور الدماغ البشري إلى مستوى طرح الأسئلة العميقة الوجودية لكنه ليس إلى مستوى تجنب الوقوع في فخ الأجابات السطحية الخاطئة فاستطاع أن يسأل من أين جاء الكون ومن أين جاءت الحياة وكيف وصلنا هنا لكنه وقع في فخ سخيف : الوثنخاف فعل ذلك.
اليوم تمكنت البشرية من التوصل إلى حقائق كثيرة لم يعرف عنها مخترعوا الوثنخاف شيئا مثل الانفجار العظيم وطاقة الفراغ التام التي يمكنها تكوين مادة من لا شيء والتطور والحمض النووي وغير ذلك. لم تعد الأمور بيد سدنة المعابد الوثنخافية. في الحقيقة لم يعد أحد يثق بسدنةالمعابد الوثنخافية ليخبروه عن حقائق الكون والمادة والحياة. صاروا مجرد مشعوذين منظرين متشدقين لا يخدعون إلا البسطاء
كيف اخترع الوثنخاف
يميل الدماغ البشري إلى تفسير الأحداث بوجود كائن عاقل يملك قدرات ذهنية بشرية : كائن يفكر ويقرر ويتفاعل ويفرح ويغضب ويرضى. هذا ما يعرف في أدبيات
الكهنوت الاسلامي بمبدأ البعرة والبعير. تفكير غريزي بدائي. وعندما رأى الإنسان القديم القمر يجري في السماء كما فهم من مدركاته الحسية فسر جريانه بوجود كائن عاقل وسماه إله القمر. كان سين أحد أسمائه. وعندما رأى الشمس تجري في السماء مثل القمر فسر ذلك بوجود عامل عاقل سماه إله الشمس. وكذلك الرياح والمطر والسحاب والحب والموت والزراعة الى آخر القائمة.
وفي زمن الفرعون آمينــــ ــ حوتب في حوالي 1350 قبل الميلاد (قبل زمن موسى المزعوم طبقا للتوراة بحوالي 100 عام) رأى شيئا آخر. قال للناس أن الذي يحرك الشمس والقمر والرياح والمطر وكل هذه الاشياء هو كائن عاقل واحد وهو آتون أو آتين. وغير اسمه من آمينــ ـ حوتب التي تعني ليرضى آمون (وينطق آمين ايضا) وهو الإله الذي كان اسمه يردد في المعابد بعد الصلوات الفرعونية ( وما زال إلى يومنا بفضل اليهود) إلى إخناتون أو أخناتين وتعني قوة آتون أو آتين. وهكذا نشأت فكرة توحيد الأوثان.
يظن عبدة الوثنخاف في زمننا هذا أنهم أذكى من متعددي الأوثان. والحقيقة لا فرق. كلهم يجهلون كيف جاء الكون ومكوناته فنسبها عبدة الوثنخاف إلى وثن واحد خفي ونسبها الوثنيون إلى أكثر من واحد. وكلاهما بنى استنتاجه على التوسل بالجهل : نجهل كيف جاء الكون ومكوناته إذن الوثنخاف موجود وهكذا.
لم تقدر عقولهم على تقبل عدم قدرتهم على فهم كيف جاء الكون المنظم المعقد بدون قوة عاقلة خلفه فاخترعوا كائنا أكثر تعقيدا وتنظيما من الكون وقبلوا ظهوره بالصدفة بدون أية قوة عاقلة. ولا يمكنهم في ظل سيطرة الكهنوت على التعليم فهم كيف صار معروفا في العلم أنه من الضرورة أن يظهر شيء من لا شيء
اليهود بحكم احتكاكهم بالفراعنة عرفوا فكرة توحيد الأوثان المتعددة في وثنخاف واحد. فاخترعوا الوثنخاف العبراني وسموه إيل في بداية عهدهم ثم سموه بعد ذلك يهووه. ورث المسيحيون هذا الوثنخاف وسموه الرب وجاد وديوز كل حسب لغته. ثم ورثه المسلمون وسموه الإيل – الإلاه – اللاه – ثم فخموها فصارت الله.
الدماغ البشري والكائنات
هناك فقط خمسة فئات معرفية للمحدثات في الدماغ البشري : الجماد الطبيعي والجماد الصناعي والنبات والحيوان متضمنة الطيور وكل شيء حي يتحرك دون الانسان ثم الانسان في الخانة الخامسة. أي فكرة مجردة تعطى له سيعمل لها صورة في إحدى هذه الخانات. إذا سمع قصة من قصص ألف ليلة وليلة عن وحش ما بقرون عديدة وجناحين فسيضعه في خانة الحيوان. وإذا سمع قصة عن جني عشق إنسية فسيضع الجني في خانة الانسان وتكون صورته في دماغه صورة انسان مع بعض التعديلات التي يسمح بها خياله وتوحي بها القصة.
وإذا سمع قصة من ألف ليلة وليلة عن الإله فسيضعه في خانة الانسان مع بعض التعديلات. لا بد أن يكون عاقلا مثله. وله أفكار مثله. وله عواطف يغضب ويرضى ويسخط. وله احتياجات ينتقم ويكافئ ويتجبر. وله إرادة مثله. وله مزاج يفعل ما يشاء ويضع القانون ويكسره.
والكتب المقدسة ليست سوى نسخة مقدسة من ألف ليلة وليلة. ولذلك رب الأديان ليس سوى بشر في نظر عبدته. بشر لكنه كبير وقوي وخارق. وهذا البشر له عرش يجلس عليه مثل كل ملوك البشر لكن عرشه كبير جدا جدا جدا ليستوعب الارداف الكبيرة جدا جدا جدا
العرش
يقول ساجع القرآن
وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ
فكرة ساجع القرآن عن وثنخافه والعرش توضح الجذور الوثنية للاسلام في أجلى حالاتها.
وصلت له الأسطورة وتشرب الفكرة السائدة في ثقافات الشرق الأوسط : فكرة معلمه بحيرى ومعلمه ورقة وفكرة قس بن ساعدة الذي كان يستمع له في سوق عكاظ وفكرة كعب بن لؤي وأمية بن أبي الصلت وفكرة خالدبن سنان العبسي الذي كان محمد معجبا به وسماه النبي الذي أضاعه قومه بتعبير الساجع.
فكرة كل الكهنة في ذلك الزمن
رسمت الوثنيات الشرقية وخاصة ذات الوثنخاف الواحد لوحات فنية نرى فيها الوثنخاف جالسا على عرش , وهذا العرش محمولا وعائما على صفحة المياه الازلية تارة , او ان ثمانية ملائكة تحمل هذا العرش حتى لا يتكعبل مرة أخرى وحتى لا تشتغل عليه الجاذبية 🤣🤣🤣 وحول العرش ترى ملائكة اخرى واقفة فى خشوع امام وعن يمين وعن يسار الجالس على العرش .
هذه الصور التى رسمتها ريشة مؤسسي الاديان الوثنخافية الابراهيمية مأخوذة من الاساطير القديمة التى ترجع لالاف السنين قبل ظهور الاديان.
فاقدم الوثنخافيات الشرقية تروى لنا اسفارها المقدسة ان لله عرش او كرسى جالس عليه منذ القدم , وان هذا العرش تحمله ملائكة مجنحة ويقف امامه جنود السماء عن يميبنه وعن يساره :
قد رايت الرب جالسا على كرسيه و كل جند السماء وقوف لديه عن يمينه و عن يساره (الملوك الأول 22 : 19)
الرب في هيكل قدسه الرب في السماء كرسيه عيناه تنظران اجفانه تمتحن بني ادم (مزمور 11 : 4)
كرسيك يا الله الى دهر الدهور قضيب استقامة قضيب ملكك (مزمور 45 : 6)
كرسيك مثبتة منذ القدم منذ الازل انت (مزمور 93 : 2)
الرب في السماوات ثبت كرسيه و مملكته على الكل تسود (مزمور 103 : 19)
كما يخبرنا حزقيال كيف رأى الوثنخاف العبري جالسا على عرش او كرسى تحمله مجموعة من ” الكروبيم ” وهى الملائكة المجنحة , ففى ثنايا الحديث عن الملائكة المجنحة ( الكروب ) , تلخص لنا دائرة المعارف الكتابية هذه الفكرة تحت مادة : كروب
” وكانت هذه المخلوقات تحمل عرش الله ( حز 1: 26-28 و 9: 3 ) وقد وصف يوحنا الرائي في سفر الرؤيا أربعة كائنات حيّة لها وجوه شبيهة بالأربعة الأوجه المذكورة آنفاً ( رؤيا 4: 6 و 7 ). “
ويقول الكتاب المقدس تحت نفس المادة :
” وفي رؤيا حزقيال (حز 1 :26، 10:110 : 1) كان الله يجلس فوق العرش الذي كان على المقبب الذي كان على رؤوس الكروبيم محمولاً على أجنحتها. “
وبعد مئات السنين من اليهودية جاءت المسيحية ونقلت لنا نفس الصورة فيروى لنا كتبة العهد الجديد ان لله ( الآب ) عرش جالس عليه , وان يسوع ( الابن ) يجلس على يمين العرش , وان ملائكة وبشر وحيوانات تقف امام العرش :
و من حلف بالسماء فقد حلف بعرش الله و بالجالس عليه (متى 23 : 22)
ناظرين الى رئيس الايمان و مكمله يسوع الذي من اجل السرور الموضوع امامه احتمل الصليب مستهينا بالخزي فجلس في يمين عرش الله (العبرانيين 12 : 2)
يوحنا الى السبع الكنائس التي في اسيا نعمة لكم و سلام من الكائن و الذي كان و الذي ياتي و من السبعة الارواح التي امام عرشه (الرؤيا 1 : 4)
من يغلب فساعطيه ان يجلس معي في عرشي كما غلبت انا ايضا و جلست مع ابي في عرشه (الرؤيا 3 : 21)
و حينما تعطي الحيوانات مجدا و كرامة و شكرا للجالس على العرش الحي الى ابد الابدين (الرؤيا 4 : 9)
و نظرت و سمعت صوت ملائكة كثيرين حول العرش و الحيوانات و الشيوخ و كان عددهم ربوات ربوات و الوف الوف (الرؤيا 5 : 11)
و كل خليقة مما في السماء و على الارض و تحت الارض و ما على البحر كل ما فيها سمعتها قائلة للجالس على العرش و للخروف البركة و الكرامة و المجد و السلطان الى ابد الابدين (الرؤيا 5 : 13)
و جميع الملائكة كانوا واقفين حول العرش و الشيوخ و الحيوانات الاربعة و خروا امام العرش على وجوههم و سجدوا لله (الرؤيا 7 : 11)
ولم تخرج صورة الوثنخاف الاسلامي عن هذه الصورة الوثنية القديمة فقال ان لله عرشا , وهذا العرش استوى عليه الاله , وان عرشه تحملة ملائكة مجنحة تارة وتحمله صفحة المياه تارة اخرى , وملائكة مجنحة تحيط بالعرش الالهى :
وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاء هود 7
نسخ لصق وإضافات
إن الديانة الأحدث , بالرغم مما تزعمه من مزاعم , تأخذ التراث الدينى الأسبق وتصيغه من جديد مع ما يلزم من إضافات جديدة تتناسب مع المستجدات والتراكمات الفكرية المتجددة, وما يلزم من حذف ما استهجنته الطبيعة الدينية من عناصر عقائدية بالية بدائية.
انطبق هذا على العبرانيين حيث تاثروا بالتراث الدينى للمنطقة فكانت ديانتهم عبارة عن دمج لما استحسنوه من عقائد واساطيرالامم التى هاجروا اليها (مثل مصر) والامم التى احتلوا اراضيها بالسيف ( مثل الكنعانيين وغيرهم.) والامم التى عاشوا فيها فى ايام سبيهم (مثل بابل وآشور والفرس).
كما انطبق هذا على الديانة المسيحية التى أسست معظم عقائدها على اليهودية وعلى كتابها المقدس فضمته الى اسفارها المقدسة , وبطبيعة الحال نقلت منها وعدلت من تعاليمها واضافت لها ما يتفق مع التطور الفكرى والعقائدى والفلسفى لعصرها.
وبالمثل جاء الاسلام وبنى دعائمه على القصص والاساطير والعقائد والطقوس التوراتية والمسيحية وبعض العقائد والمذاهب الاخرى التى كانت منتشرة فى الجزيرة العربية . فترى القرآن ينقل ما جاء فى الاديان السابقة له نقلا حرفيا فى بعض الاحيان ,ويعدل فى ما يراه غير مناسب او لائق بالدين الجديد فى احيان اخرى , وتراه ايضا يرفض وينتقد من العقائد السابقة ما اختلف اصحاب تلك العقائد فيه او ما اصبح غير مقبول فى زمنٍ زادت فيه المعرفة واتسعت فيه الاراء والافكار الدينية وتراكمت فيه كافة المذاهب.
ولقد حاول العلامة اليهودى جيجر الوصول الى مصدر هذه الاسطورة الاسلامية وتوصل الى ان هذه الفكرة جاءت فى تفسيرات اليهود القديمة للتوراة , فيقول فى كتابه : اليهودية والاسلام
Judaism and islam , by Geiger , SECOND DIVISION , CHAPTER ONE , Second part , Views borrowed from Judaism :
During the creation, however, His throne was upon the waters. This idea also is borrowed from the Jews, who say: “The throne of glory then stood in the air, and hovered over the waters by the command of God.” This is somewhat more clearly expressed by Elpherar who says: “And this water was in the middle of the air.”
الترجمة :
” واثناء الخلق كان عرشه على الماء , وهذه الفكرة ( الاسلامية ) مقتبسة من اليهود الذين قالوا : وقف عرش المجد حينئذ فى الهواء وتأرجح على صفحة المياه بامر الاله “
واستند العلامة المسيحى كلير تسدال على ما ذكره جيجر , فيقول فى كتابه : المصادر الاصليه للقرآن
THE ORIGINAL SOURCES OF THE QUR’AN by CLAIR TISDAL ch 3
“ان المفسر رابى شلومو يتسحاقى ( راشى) وهو من كبار المفسريين اليهود جاء فى تفسيره للتكوين 1 : 2 قال:
إن العرش المجيد استقر في الهواء، وعام على المياه “
In Surah XI., Hud, 9, in reference to God’s throne it is said that, before the creation of the heavens and the earth 65, “His Throne was above the water,” in the air’. So also, in commenting on Gen. i., the Jewish commentator Rashi, embodying a well-known Jewish tradition, writes thus: “The Throne of Glory stood in the air and brooded over the waters”
لكن هذه فقط جزء من الحقيقة. أخذت الوثنخافية الاسلامية فكرة العبرانيين الوثنية عن معبودها. لكن اليهود لم يكونوا الأصل. لقد أخذوها بدورهم عن الوثنيات الاسبق وعدلوا ما يناسبهم
اسطورة ازلية الماء
قبل ظهور الاديان بالاف السنين وجدت الاساطير القديمة التى حاولت ان تقدم تفسيرا للوجود ونشأة الكون
من خلق هذا الكون ؟
وكيف خلقه ؟
ومن اى شئ خلقه؟
ولماذا خلقه ؟
وانتهى الفكر الاسطورى عند السومريين وهم اقدم الحضارات فى المنطقة الى ان الماء هو اصل الوجود والحياة
ومن الماء خرجت الحياة وعمرت الارض والسماء.
يقول الباحث العراقى د. فاضل على عبد الواحد ملخصا الاعتقاد السومرى:
” فى البدء كانت مياه البحر , (فى السومرية الإلهه نمو Nammu ) والارجح ان السومريين تصوروا ان المياه هذه كانت ازلية.
من مياه البحر الازلية هذه ولد جبل كونى يمثل السماء والارض متحدتين (رتقا) : السماء ( فى السومرية An , وعدت عنصرا مذكرا ) , والارض ( Ki عنصرا مؤنثا ).
نتيجة لاتحاد (رتق) السماء والارض ولد إله الهواء “أنليل “.
أن الاله أنليل فصل (فتق) السماء عن الارض , فحمل أبوه An السماء , وحمل هو الارض.
بعد أن تم فصل (فتق) السماء عن الارض , وتم خلق الكواكب والنجوم , ظهرت معالم الحياة على الارض. “
(من سومر الى التوراة) د. فاضل عبد الواحد على , ص 194 سينا للنشر.
ولقد انتقلت هذه الاسطورة الخاصة بأزلية الماء الى الحضارة البابلية فى قصة الخلق البابلية المعروفة باسم (اينوما ايليش) ,
يقول د. فاضل
” هنا نجد ايضا انه لم يكن فى البدء سوى المياه الازلية ” أبسو” ( المياه العذبة , مذكر) وتيامة ( المياه المالحة , مؤنث).
وانه من اتحادهما (رتقهما) ولد الجيل الاول من الالهة… …..
هنا فى اسطورة الخليقة البابلية , نجد ايضا أن المياه كانت أصل الوجود , وان السماء والارض تكونتا , على غرار المعتقدات السومرية , نتيجة انشطار (فتق)جسد تيامة ( المياه المالحة) الى شطرين على يد مردوخ.”
(من سومر الى التوراة) د. فاضل عبد الواحد على , ص 194 سينا للنشر.
وتبدأ اسطورة الخلق البابلية اينوما ايليش مؤكدة على ازلية الماء فتقول:
“عندما فى الاعالى لم تكن سماء
وفى الاسفل لم يكن ارض
لم يكن ( من الالهة ) سوى آبسو أبوهم
وممو , وتعامة التى حملت بهم جميعا
يمزجون أمواههم (جمع ماء) معا …”
(مغامرة العقل الاولى) فراس السواح ص 56 الطبعة التاسعة
وعن تغلغل الأسطورة السومرية عن المياه الازلية او الميلاد المائى للكون فى التراث الثقافى والدينى للمنطقة يقول الباحث فراس السواح:
” تثبت لنا هذه الاساطير السومرية تقاليد بقيت سائدة فى الفكر الاسطورى لحضارات المنطقة والحضارات الاخرى المجاورة. ففكرة الميلاد المائى تتكرر فيما بعد فى الاساطير البابلية التى تحكى عن ولادة الكون من المياه الاولى “تعامة” المقابلة ل ” نمو” السومرية. وفى الاسطورة السورية نجد “يم” المياه الاولى وقد انتصر عليه الاله بعل وشرع بعد انتصاره تنظيم العالم. وفى الاسطورة المصرية كان ” رع” اول اله يخرج من المياه الاولى وهو الذى انجب فيما بعد بقية الالهة . وفى الاسطورة الاغريقية نجد ” اوقيانوس ” هو المياه الاولى , والاله البدائى الذى نشأ عنه الكون. وفى التوراة العبرانية ايضا نجد المياه الاولى وروح الرب فوقها قبل التكوين ” وكانت الارض خربة وخالية وروح الرب يرف فوق وجه الماء” التكوين 1 .
كما أكد لنا القرآن وجود المياه البدئية اذ قال ” وهو الذى خلق السموات والارض فى ستة أيام وكان عرشه على الماء ” وقال ” وجعلنا من الماء كل شئ حى” “
(مغامرة العقل الاولى) فراس السواح ص 36 الطبعة التاسعة
ومع ان الاسلام وحد الأوثان كلها في وثنخاف واحد هو وحده الازلى , إلا ان هذه الاسطورة لم يقدر الاسلام الانفلات من تاثيرها الطاغى على العقل الشرقى. فقال القرآن ان الماء كان موجودا قبل الخلق في ستة أيام أي انه المادة الاولى التى خلق منها كل شئ , وهذا اعتراف ضمنى بازليتها رغم تناقضها مع سجعيات أخرى.
فلقد جاءت آيتان في سجعيات القرآن تكشفان عن تأثر ساجعه بالاعتقاد الاسطورى القديم الذي ظهر في التوراة ايضا بأزلية المياه أو انها اصل الوجود والحياه
هود 7
وهو الذى خلق السموات والارض فى ستة أيام وكان عرشه على الماء
الانبياء 30
وجعلنا من الماء كل شئ حى أفلا يؤمنون
والدارس للاسلام بتراثه وتفاسيره يكتشف بوضوح تغلغل الفكرة الاسطورية فى ذهن محمد واتباعه.
فعن اعتقاد علماء المسلمين بوجود المياه قبل الخلق يقول تفسير الجلالين :
“وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَات وَالْأَرْض فِي سِتَّة أَيَّام” أَوَّلهَا الْأَحَد وَآخِرهَا الْجُمُعَة “وَكَانَ عَرْشه” قَبْل خَلْقهمَا “عَلَى الْمَاء” وَهُوَ عَلَى مَتْن الرِّيح “
ويقول ابن كثير فى تفسيره لاية هود 7
“يخبرنا تعالى عن قدرته على كل شئ وانه خلق السموات والارض فى ستة ايام
وان عرشه كان على المياه قبل ذلك ” ج2 ص 418
ثم يورد ابن كثير حديثا للامام احمد ان محمدا قال
“كان الله قبل كل شئ وكان عرشه على الماء وكتب فى اللوح المحفوظ ذكر كل شئ”
وهذا الحديث الذي يتطابق تماما مع القرآن ورد ايضا فى البخارى ومسلم. فالماء كان موجودا ومستقرا عليه عرش الله قبل ان يخلق الله شيئا . ويذكر ابن كثير انه جاء فى صحيح مسلم :
“عن عبدالله بن عمرو بن العاص قال رسول الله:ان الله قدر مقادير الخلائق قبل ان يخلق السموات والارض بخمسين الف سنة , وكان عرشه على الماء. ” ج2 ص419
ويستمر ابن كثير فى عرض تفسير الصحابة والتابعين لهذه الاية فيقول:
“قال مجاهد {وكان عرشه على الماء} قبل ان يخلق شيئا , وكذا قال وهب بن منبه وضمرة وقتادة وابن جرير وغير واحد. وقال قتادة فى قوله {وكان عرشه على الماء} :ينبئكم كيف كان بدء خلقه قبل ان يخلق السموات والارض … وقال محمد بن اسحاق فى قوله تعالى {هو الذى خلق … وكان عرشه على الماء} : فكان كما وصف نفسه تعالى إذ ليس إلا الماء وعليه العرش وعلى العرش ذو الجلال والاكرام. “
وجاء فى كتاب (الرسل والملوك) للطبري
“ان الله تعالى كان عرشه على الماء , ولم يخلق شيئا غير ما خلق قبل الماء.فلما اراد ان يخلق الخلق اخرج من الماء دخانا فارتفع فوق الماء , فسما عليه فسماه سماء , ثم ايبس الماء فجعله ارضا واحدة.”
عن مغامرة العقل الاولى ص37
وجاء فى (الفتوحات المكية ) لابن عربى
“وكان عرشه على ذلك الماء قبل وجود الارض والسماء) ص37 – السابق
وفى حديث للامام احمد ما يثبت وجود المياه قبل الخلق حيث سئل محمد :
“اين كان ربنا قبل ان يخلق خلقه؟ قال (محمد) كان فى عماء ما تحته هواء وما فوقه هواء” ( ابن كثير ج2 ص 419 )
ويعلق فراس السواح ص94 على معنى عماء فيذكر تعريف ابن عربى للعماء (الفتوحات المكية – القاهرة1972 ):
“العماء هو الغيم الرقيق الذى يحول بين الناظر وبين الشمس”
وهكذا نرى ان القرآن ومحمدا واتباعه ومفسري القرآن اتفقوا جميعا على ان المياه كانت سابقة على خلق السموات والارض. ولا يختلف علماء المسلمين المعاصرين عن رأى القدماء من المسلمين . فمثلا فى الترجمة الانجليزية للقرآن للعلامة المسلم عبد الله يوسف على , ترجم الآية {وكان عرشه على الماء} هكذا
And his throne was over the waters
وجاء تعليقه فى الحاشية كالآتى
The past tense “was” refers to the time before life developed in solid forms, on land and in air.(p.511)
وترجمته
“فعل {كان} فى زمن الماضى يشير الى الزمن قبل ان تتطور الحياة الى اشكال جامدة على الارض او فى الهواء.”
ولذلك بعد كل تلك القرائن ليس غريبا ألا يجد فراس السواح حرجا فى الاعتراف بتأثر الاسلام ,كما تأثرت كافة الحضارات والمعتقدات القديمة , بأسطورة أزلية الماء والميلاد المائى للكون , يقول
“كما أثبت لنا القرآن الكريم وهو نهاية الوحى الذى ابتدأ بسيدنا آدم وجود المياه البدئية” ص 36
ويقول ايضا:
“كما أثبت القرآن الكريم فكرة الوجود السابق على الخلق عندما قال {وهو الذى خلق السموات والارض فى ستة ايام وكان عرشه على الماء} سورة هود 6 . كما أشار محمد (ص) فى الحديث الشريف الى نفس الموضوع عندما اجاب عن سؤال : اين كان ربنا قبل ان يخلق الخلق؟ فقال :كان فى عماء.” ص 94
إستواء الله على العرش
لله عرش …
قالت بذلك الاديان السماوية عامة , والاسلام خاصة , وهذا العرش مستقرا على الماء البدئية التى سبقت الخلق كما اوضحنا
وهذا بيان بالآيات القرآنية التى ذكر فيها عرش الاله:
{إن ربكم الله الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش يغشي الليل النهار يطلبه حثيثا والشمس والقمر والنجوم مسخرات بأمره ألا له الخلق والأمر تبارك الله رب العالمين} الاعراف 54
{فإن تولوا فقل حسبي الله لا إله إلا هو عليه توكلت وهو رب العرش العظيم} التوبة 128
{إن ربكم الله الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش يدبر الأمر ما من شفيع إلا من بعد إذنه ذلكم الله ربكم فاعبدوه أفلا تذكرون} يونس 3
{وهو الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام وكان عرشه على الماء ليبلوكم أيكم أحسن عملا ولئن قلت إنكم مبعوثون من بعد الموت ليقولن الذين كفروا إن هذا إلا سحر مبين} هود7
{الله الذي رفع السماوات بغير عمد ترونها ثم استوى على العرش وسخر الشمس والقمر كل يجري لأجل مسمى يدبر الأمر يفصل الآيات لعلكم بلقاء ربكم توقنون} الرعد 2
{قل لو كان معه آلهة كما يقولون إذا لابتغوا إلى ذي العرش سبيلا} الاسراء 42
{الرحمن على العرش استوى} طه 5
{لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا فسبحان الله رب العرش عما يصفون} الانبياء 22
{قل من رب السماوات السبع ورب العرش العظيم} المؤمنون 86
{فتعالى الله الملك الحق لا إله إلا هو رب العرش الكريم} المؤمنون 116
{الذي خلق السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام ثم استوى على العرش الرحمن فاسأل به خبيرا} الفرقان59
{الله لا إله إلا هو رب العرش العظيم} النمل 26
{الله الذي خلق السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام ثم استوى على العرش ما لكم من دونه من ولي ولا شفيع أفلا تتذكرون} السجدة 4
{ وترى الملائكة حافين من حول العرش يسبحون بحمد ربهم وقضي بينهم بالحق وقيل الحمد لله رب العالمين} الزمر75
{ الذين يحملون العرش ومن حوله يسبحون بحمد ربهم ويؤمنون به ويستغفرون للذين آمنوا ربنا وسعت كل شيء رحمة وعلما فاغفر للذين تابوا واتبعوا سبيلك وقهم عذاب الجحيم} غافر 7
{رفيع الدرجات ذو العرش يلقي الروح من أمره على من يشاء من عباده لينذر يوم التلاق}
غافر 15
{سبحان رب السماوات والأرض رب العرش عما يصفون} الزخرف 82
{هو الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش يعلم ما يلج في الأرض وما يخرج منها وما ينزل من السماء وما يعرج فيها وهو معكم أين ما كنتم والله بما تعملون بصير} الحديد 4
{والملك على أرجائها
ويحمل عرش ربك فوقهم يومئذ ثمانية } الحاقة 17
{ذي قوة عند ذي العرش مكين} التكوير20
{ذو العرش المجيد} البروج 15
وخلاصة ما جاء بهذه الايات بشأن العرش نلاحظ الاتى:
بعد انتهاء الله من خلق السموات والارض قام بالاستواء على العرش { ثم استوى على العرش } , اى ان العرش كان موجودا قبل الخلق
وصف القرآن الله بالارتباط بالعرش مثل رب العرش العظيم و ذي العرش و الله رب العرش ورب العرش الكريم
كان عرش الله على الماء
يقول القرآن ان هناك ملائكة حاملة للعرش وملائكة تحيط به “الملائكة حافين من حول العرش ” , و الذين يحملون العرش ومن حوله , بل ان القرآ ن يحدد عدد حملة العرش بثمانية : ” ويحمل عرش ربك فوقهم يومئذ ثمانية “
إن هذه الآيات لطالما حيرت علماء المسلمين لما فيها من تصوير تجسيمى مادى للذات الالهية وإقرار من القرآن لبعض الافكار الحلولية والتجسيدية لله , تلك الافكار نفسها حاربها القرآن وسفهها فى العقائد الاخرى لكن ليس في اعتقاداته.
فكان المسلمون حائرين , فبين ايديهم آيات قرآنية كثيرة تنزه الله عن المادة والتجسد والحلولية ( مثل آية : ليس كمثله شئ ) تتناقض مع آيات العرش التى جعلت من الله كائنا مجسما محدودا بحدود ذلك العرش المادى الذى يحمله ثمانية ملائكة. وكان من شدة حيرتهم , انهم اختلفوا فى تفسير ذلك ومنهم من امتنع عن تفسيرة بل ومنهم من حرم تفسيره , وليس ادل على ذلك من الحادثة المشهورة التى سجلتها كتب التاريخ الاسلامى من ان شخصا قام الخليفة عمر بن الخطاب بجلده لا لشئ إلا لانه سئل عن كيف استوى الله على العرش ! !
وغنى عن البيان قول معظم الفقهاء والائمة مقولتهم الشهيرة :
الاستواء معلوم والكيف مجهول والسؤال عنه بدعة !!
طبعا مجهول لأنه تخيلي. الوثنخاف بنفسه مجهول لأنه تخيلي لا وجود له
وكان على المسلم ان يؤمن باستواء الله على العرش دون ان يسأ ل عن الكيفية .
إن القرآن يصور لنا الله ككائن محدود على عرش محدود, تارة نجده سابحا على صفحة المياه , وتارة تحمله كائنات ملائكية محدودة , لا فرق بين هذه الصورة المادية وبين الصورة التى رسمتها الاساطير القديمة للآلهة والمعبودات الوثنية.
دور اليهود
اختلط اليهود بالبابليين فأخذوا اساطير سومر وبابل. كما أخذوا اساطير الفراعنة
قلنا ان هذه الصورة تسربت الى الاسلام من الاساطير القديمة التى اقتبستها اليهودية اقدم الديانات الثلاثة , لكن ما هى مصدر تلك الاساطير تحديدا؟
وللاجابة على هذا السؤال , سنلقى بنظرة على الاسطورة المصرية الخاصة بالاله رع فتنجلى لنا الصورة واضحة.
فى مذهب وعقائد مدينة أون (عين شمس – هليوبوليس) كان الاعتقاد باصل الكون ونشأته يتلخص فى أنه فى البدء :
لم يوجد شئ إلا نون المياه الازلية الاولى .
وتؤكد هذه العقيدة على ان الاله رع لم يخلق من نون , وانما كان كامنا فيها وانه خلق نفسه بنفسه وكان يطلق عليه فى هذا المذهب لقب الموجود بذاته
تاريخ الحضارة المصرية – تأليف نخبة من العلماء –مقالة سليم حسن ص 210
فحتى الان لم يوجد فى الوجود غير المياه الازلية و رع الازلى .فكيف كان رع مستقرا على هذه المياه؟
طرأ هذا السؤال على كهنة أون . ووجدوا اجابة مرضية فى قولهم ان رع
“وقف على حجر هرمى الشكل اطلق عليه المصريون لفظة بن بن , وهذا الشكل الهرمى قد اصبح منذ ذلك العهد رمزا مقدسا عند المصريين لاله الشمس”
سليم حسن-المرجع السابق
اى ان الاله وقف او قل جلس او استوى على ذلك الحجر المقدس الذى كانت المياه تحمله , وما الحجر هنا إلا بمثابة عرش للاله خاصة انه حجر مقدس .
وخلاصة هذه الاسطورة المصرية يمكن صياغتها بهذه العبارة الوجيزة وهى ان الاله رع:
كان حجره على الماء
وبلغة القرآن :
كان عرشه على الماء
وهناك تفسير آخر يمكن استخلاصه من اساطير رع الاخرى غير تفسير العرش بالحجر المقدس.
فقد اعتقد المصريون منذ اقدم الاسر كما جاء بالنقوش المصرية القديمة وفى متون الاهرامات ان إله الشمس رع يتجول كل يوم فى السماء فى سفينته , باعتبار ان السماء بحرا او مياه (فلك يسبحون بالتعبير القرآني)– تلك المياه الاولى الابدية التى صار نصفها الاعلى سماءا ونصفها الاسفل ارضا – وهنا نرى العلاقة العضوية بين المياه والسفينة , وهذه الصورة يمكن تلخيصها فى العبارة :
رع كانت سفينته على الماء
وبما ان رع هو الاله العظيم . فمن متطلبات الالوهية ان يكون له عرشا عظيما , فكانت السفينة هى العرش الالهى العظيم الذى يحمل الاله أو يستوى عليه الاله على الماء.
فاذا انتقلنا الى تصوير القرآن لله بان { كان عرشه على الماء } يتضح لنا مدى تغلغل هذه الاسطورة فى الفكر الاسلامى . فالعرش هنا له نفس خصائص السفينة من حيث ان المياه كانت تحمله , لكن الآية استبدلت السفينة بالعرش وذلك لان الديانة الجديدة لا تؤمن بان الشمس هى الله , فلماذا الابقاء على السفينة التى كانت تحمل الاله (في فلك يسبحون)؟
فنقل الاسلام عن اليهودية اصل ومضمون الاسطورة المصرية الموغلة فى القدم من ان الاله كان يحمل على المياه (استوى عليها) , على عرش عظيم يليق بجلاله الملوكى.
وهكذا رأينا بالتحليل والدراسة كيف انتقلت للاديان الشرقية الاساطير القديمة , كما القينا الضوء على احتواء الاية { كان عرشه على الماء } على اسطورتين من اقدم الاساطير الشرقية , اسطورة المياه البدئية الموجودة قبل خلق السموات والارض , واسطورة العرش الالهى العظيم السابح على هذه المياه بما تحتويه هذه الصورة من تجسيد للاله وتحديد له على غرار آلهة الشعوب والحضارات القديمة .
إقرار
يعود الفضل في جمع المعلومات والبحث للكاتب: سواح
المصدر: شبكة اللادينيين العرب
ملاحظة : الوثنخاف مصطلح لتسمية الإله الإبراهيمي. ويتكون من شقين الأول وثن وتعني كائن تخيلي يتم افتراضه وتخيله ثم اقناع النفس بوجوده. وهو كائن أخرس ابكم أطرش اصم لا يستطيع أن يقول حتى كلمة بم. والشق الثاني خفي. وتعني غير مرئي وذلك لتمييزه عن الأوثان المرئية مثل هبل والعزى ومناة الثالثة الأخرى
شارك الآن إن لم تكن قد فعلت من قبل في إحصائية اللادينيين
نزل الجزء الثاني من ذهان النبوة مجانا
التبرع للموقع
اضغط أدناه إذا أحببت التبرع للموقع عبر الباي بال او بطاقة الاعتماد
